تشهد كندا، التي طالما عُرفت بكونها ملاذاً آمناً ومجتمعاً متعدد الثقافات، ظاهرة مقلقة بدأت تثير تساؤلات جدية حول مستقبلها الاقتصادي والاجتماعي. يتعلق الأمر بنزوح ملحوظ للمواهب ورؤوس الأموال، ليس فقط بحثاً عن فرص اقتصادية أفضل، بل لأسباب تتجاوز الجانب المادي لتلامس جوهر الأمن الشخصي.
الأنباء الواردة تشير إلى أن جزءاً لا يستهان به من هذه الهجرة الجديدة يعود إلى أسباب تتعلق بالسلامة والأمن الشخصي، ولا سيما بين أفراد الجالية اليهودية الكندية. هذه المخاوف، التي تتزايد في ظل مناخ عالمي مضطرب، تدفع بالبعض إلى البحث عن ملاذات يُنظر إليها على أنها أكثر استقراراً وأماناً، والولايات المتحدة تظهر كوجهة رئيسية.
إن خروج الأفراد ذوي الكفاءات العالية، سواء كانوا رواد أعمال أو متخصصين في مجالات حيوية، يمثل ضربة موجعة للاقتصاد الكندي. فالمواهب هي المحرك الأساسي للابتكار والنمو، وفقدانها يعني تباطؤاً محتملاً في التطور التكنولوجي والقدرة التنافسية للبلاد على الساحة الدولية.
الأمر لا يقتصر على المواهب البشرية فحسب، بل يمتد ليشمل رؤوس الأموال. هروب الاستثمارات والمدخرات إلى الخارج يعكس عدم ثقة متزايد في المناخ الاقتصادي أو الأمني المحلي، مما يؤدي إلى تراجع في التنمية وفرص العمل، ويضع ضغوطاً إضافية على الخزانة العامة.
أسباب تتجاوز الاقتصاد
التحليل الدقيق لهذه الظاهرة يشي بأن الأسباب تتجاوز مجرد البحث عن دخل أعلى أو ضرائب أقل. إن المخاوف الأمنية، سواء كانت حقيقية أو متصورة، تلعب دوراً محورياً في قرارات الهجرة. فالمجتمعات التي تشعر بالضعف أو عدم الأمان داخل وطنها تبدأ بالبحث عن أرض بديلة توفر لها الشعور بالاستقرار والحماية.
تُعتبر الولايات المتحدة، على الرغم من تحدياتها الخاصة، وجهة جذابة للعديد من هؤلاء المهاجرين، وذلك لعدة أسباب؛ منها التقارب الجغرافي والثقافي، وفرص العمل الواسعة، وبيئة الأعمال الديناميكية، بالإضافة إلى تصور أنها توفر مستوى أعلى من الأمن الشخصي لبعض الفئات.
هذا النزوح يطرح أسئلة ملحة حول مدى قدرة كندا على الاحتفاظ بكفاءاتها ورؤوس أموالها. هل البيئة الكندية، بمزاياها المعروفة، لم تعد كافية لجذب أو إبقاء هذه الفئات؟ وما هي التحديات التي يجب على الحكومة الكندية معالجتها بجدية لوقف هذا النزيف؟
تداعيات على الهوية الكندية
على المدى الطويل، قد تؤثر هذه الظاهرة على النسيج الاجتماعي والثقافي لكندا. فالتنوع البشري والمساهمات الاقتصادية والثقافية لهذه المجتمعات هي جزء لا يتجزأ من الهوية الكندية. فقدان جزء منها قد يؤدي إلى تغيرات ديموغرافية واقتصادية يصعب التكهن بجميع تبعاتها.
برأيي، على الحكومة الكندية والمجتمع المدني أن يعملا معاً لفهم الأسباب الجذرية لهذه المخاوف الأمنية ومعالجتها بشكل فعال. الأمر لا يتعلق فقط بتوفير الفرص الاقتصادية، بل ببناء بيئة يشعر فيها جميع المواطنين، بغض النظر عن خلفياتهم، بالأمان والاندماج الكامل.
في الختام، إن هجرة المواهب والأموال لأسباب تتعلق بالسلامة هي إشارة حمراء لا يمكن تجاهلها. يتطلب الأمر تحليلاً عميقاً، وإجراءات استباقية، والتزاماً راسخاً بتعزيز الأمن الاجتماعي والاقتصادي لجميع المقيمين في كندا، لضمان استمرارها كوجهة جاذبة للمواهب والاستثمارات بدلاً من كونها نقطة انطلاق لها.
np comment: تعليق صحيفة ناشيونال بوست