في عالم اقتصادي مترابط ومتقلب، تبرز الهند كقوة صاعدة تسعى لتحقيق الاستقرار والنمو. وفي خضم التحديات العالمية، يطرح خبراء الاقتصاد تساؤلات حاسمة حول قدرة الدول على الموازنة بين الأهداف الكلية والتداعيات الجزئية. يأتي تصريح محافظ البنك الاحتياطي الهندي الأسبق، دي سوباراو، ليضيء زاوية مهمة في هذا النقاش.
يرى سوباراو أن الاقتصاد الهندي يمتلك المرونة الكافية لتحمل تضحية في النمو تصل إلى 50 نقطة أساس (0.5%)، شرط ألا تتجاوز هذه الفترة عامًا واحدًا. هذا التصريح يوحي بثقة في الأسس الاقتصادية للبلاد، وإشارة إلى أن هناك مجالاً للمناورة السياسية، ربما بهدف كبح التضخم أو تحقيق استقرار مالي أوسع، حتى لو تطلب ذلك تباطؤًا طفيفًا ومؤقتًا في وتيرة التوسع الاقتصادي.
تعود هذه المرونة جزئيًا إلى حجم الاقتصاد الهندي وتنوعه، وقوة الطلب المحلي الذي يشكل درعاً واقياً في وجه التقلبات الخارجية. كما أن الإصلاحات الهيكلية التي شهدتها البلاد في السنوات الأخيرة ساهمت في بناء قدرة أكبر على الصمود أمام الصدمات الاقتصادية، مما يجعل فكرة “التضحية المؤقتة” تبدو ممكنة على المستوى الكلي.
التداعيات القطاعية والاجتماعية
لكن التحذير الأهم الذي يطلقه سوباراو لا يتعلق بحجم التضحية الإجمالية، بل بتفاصيلها. فالقلق الأكبر يكمن في التداعيات المحددة على قطاعات معينة، وتأثيرها المباشر على الأسر ذات الدخل المنخفض، خصوصًا تلك العاملة في الصناعات كثيفة العمالة.
يشير سوباراو تحديدًا إلى قطاعات مثل صناعة الآلات والأجهزة الميكانيكية، وكذلك قطاع الأحجار الكريمة والمجوهرات. هذه القطاعات، التي توفر فرص عمل لملايين العمالة ذات المهارات المختلفة، غالبًا ما تكون حساسة للتقلبات الاقتصادية، وتتأثر بشكل مباشر بأي تباطؤ في النمو أو تغير في سياسات الطلب أو التصدير.
إن تباطؤ النمو في هذه الصناعات يمكن أن يؤدي إلى تسريح العمال، أو خفض الأجور، أو تراجع فرص العمل، مما يضع عبئًا ثقيلاً على كاهل الأسر ذات الدخل المحدود. فالتداعيات هنا ليست مجرد أرقام على الرسوم البيانية، بل هي تحديات معيشية حقيقية تؤثر على الأمن الغذائي والصحي والتعليمي لهذه الفئات الهشة.
من هذا المنطلق، يصبح لزامًا على صانعي السياسات تبني نهج دقيق يوازن بين الأهداف الاقتصادية الكلية وحماية الفئات الأكثر ضعفًا. يتطلب الأمر برامج دعم موجهة، وشبكات أمان اجتماعي قوية، وربما حوافز للقطاعات المتضررة لضمان عدم تحول التضحية الاقتصادية المؤقتة إلى أزمة إنسانية طويلة الأمد.
نحو مستقبل اقتصادي متوازن
في رأيي، هذا التحذير من محافظ البنك المركزي الأسبق يمثل تذكيرًا هامًا بأن الأرقام الاقتصادية الكبيرة غالبًا ما تخفي وراءها قصصًا فردية ومعاناة اجتماعية. يجب ألا يكون النمو الاقتصادي هدفًا في حد ذاته، بل وسيلة لتحسين جودة حياة جميع المواطنين، لا سيما الأقل حظاً. إن تجاهل هذه التداعيات الدقيقة يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الفوارق الاجتماعية وزيادة حدة التحديات الداخلية.
إن تحقيق التوازن بين الاستقرار الاقتصادي الكلي والرفاه الاجتماعي الجزئي هو مفتاح التنمية المستدامة. فالمجتمعات التي تستطيع حماية فئاتها الأكثر ضعفًا خلال فترات التباطؤ هي التي تتمتع بمرونة حقيقية وقدرة على التعافي بشكل أسرع وأكثر شمولاً.
في الختام، بينما تُظهر الهند قدرة على الصمود أمام تباطؤ اقتصادي محدود، فإن الاختبار الحقيقي يكمن في كيفية إدارة هذا التباطؤ لتقليل آثاره السلبية على حياة الملايين. إنها دعوة لسياسات اقتصادية شاملة تأخذ في الاعتبار ليس فقط الأرقام الكبيرة، بل أيضًا الوجوه الإنسانية وراءها، لضمان أن التنمية لا تترك أحدًا خلف الركب.
كلمات مفتاحية:
- محافظ البنك الاحتياطي الهندي الأسبق
- تضحية بالنمو
- الأسر ذات الدخل المنخفض
- القطاعات كثيفة العمالة
- المرونة الاقتصادية