تشهد الساحة الاقتصادية في كل من كندا والولايات المتحدة تحولاً ملحوظاً، يبدو وكأنه اندفاع محموم نحو نموذج اقتصادي يعتمد بشكل أكبر على تدخل الدولة وتوجيهها للصناعة. هذا التوجه الجديد يثير تساؤلات جدية حول مستقبل اقتصاد السوق الحر الذي لطالما كان الركيزة الأساسية لازدهار هاتين الدولتين، ويعكس تغيراً إيديولوجياً يتجاوز الانقسامات السياسية التقليدية.
التحول الاقتصادي الجديد
ما يُعرف بـ “رأسمالية الدولة الصناعية” أو “التوجيه الصناعي الحكومي” يعكس رغبة متزايدة للحكومات في لعب دور أكبر في تشكيل اقتصاداتها. بدلاً من ترك قوى السوق تحدد مسار القطاعات الصناعية بشكل حصري، تسعى الدول الآن إلى توجيه الاستثمارات، ودعم صناعات معينة، وضمان سلاسل توريد محلية، وحتى تحديد أولويات الإنتاج في مجالات حيوية.
تتعدد الدوافع وراء هذا الاندفاع. فمنها التحديات المناخية الملحة التي تتطلب استثمارات ضخمة في الطاقة الخضراء وتوجيهاً حكومياً لتحقيق الأهداف البيئية، ومنها أيضاً تداعيات جائحة كوفيد-19 التي كشفت عن نقاط ضعف كبيرة في سلاسل التوريد العالمية وأثارت مخاوف بشأن الاعتماد المفرط على الخارج. كما تلعب المنافسة الجيوسياسية المتزايدة، لا سيما مع قوى صاعدة، دوراً في دفع الحكومات نحو تعزيز قدراتها الصناعية الوطنية.
دوافع الاندفاع وتحدياته
الملفت في هذا التحول أنه لا يقتصر على تيار سياسي واحد. فمن اليمين واليسار، تتجه الأصوات نحو مطالبة الدولة بمزيد من التدخل. يرى البعض في ذلك فرصة لتحقيق أهداف اجتماعية واقتصادية، بينما يراه آخرون ضرورة استراتيجية لضمان الأمن القومي والازدهار الاقتصادي في عالم يتسم بالتقلبات وعدم اليقين، مما يخلق إجماعاً غير متوقع حول هذه الرؤية.
من الناحية النظرية، يمكن أن يقدم التوجيه الحكومي بعض الفوائد. فقد يسمح للدول بالاستثمار في قطاعات استراتيجية تحتاج إلى دفع أولي كبير، أو معالجة “إخفاقات السوق” حيث لا يستثمر القطاع الخاص بالقدر الكافي في مشاريع ذات منفعة عامة عالية. كما يمكن أن يساهم في بناء قدرات إنتاجية محلية حيوية، وتوفير فرص عمل في صناعات المستقبل، وتلبية الاحتياجات الوطنية الملحة.
ولكن هذا الاندفاع يحمل في طياته مخاطر جسيمة. فالتدخل الحكومي المكثف قد يؤدي إلى تخصيص غير فعال للموارد، والتحيز لصالح شركات معينة (المحسوبية)، وتشويه المنافسة، وتثبيط الابتكار الذي تزدهر به الأسواق الحرة. كما أنه قد يؤدي إلى زيادة الأعباء المالية على دافعي الضرائب وارتفاع الدين العام، خاصة إذا كانت المشاريع المدعومة حكومياً غير مستدامة على المدى الطويل.
الدروس التاريخية والمستقبل
التاريخ مليء بالأمثلة على التدخل الحكومي في الصناعة، بعضها حقق نجاحاً باهراً كما في بعض تجارب آسيا بعد الحرب العالمية الثانية، وبعضها الآخر انتهى بفشل ذريع. الفارق يكمن في كيفية تطبيق هذه السياسات: هل هي مرنة وتتكيف مع ظروف السوق، أم أنها جامدة وتفرض رؤى من الأعلى إلى الأسفل؟ هذا الاندفاع “المحموم” يثير القلق من أننا قد لا نتعلم من الأخطاء السابقة.
إن وصف الاندفاع بأنه “مجنون” أو “محموم” يوحي بأن هناك افتقاراً للتفكير العميق والتخطيط المستفيض. فالتغييرات الجذرية في الأيديولوجيا الاقتصادية تتطلب دراسة متأنية للآثار طويلة المدى، وليس مجرد رد فعل سريع على أزمات راهنة. السرعة قد تمنع تقييم التكاليف والفوائد بشكل شامل، وقد تؤدي إلى سياسات تتسم بالقصر في النظر أو تفتقر إلى الاستدامة.
على الصعيد العالمي، إذا تبنت كندا والولايات المتحدة، وهما من أكبر الاقتصادات التي طالما دافعت عن اقتصاد السوق، نماذج أكثر توجهاً نحو الدولة، فماذا يعني ذلك للنظام الاقتصادي العالمي؟ قد نشهد تزايداً في الحمائية، وتقييداً لحركة التجارة والاستثمار، وتراجعاً عن مبادئ العولمة التي شكلت العالم لعقود. هذا التوجه قد يعيد رسم الخارطة الاقتصادية الدولية برمتها.
في الختام، يمثل هذا التحول نحو رأسمالية الدولة الصناعية نقطة تحول حاسمة. وبينما قد يكون هناك مبرر لبعض أشكال التدخل الحكومي لمعالجة تحديات كبرى، فإن الاندفاع غير المدروس نحوها ينطوي على مخاطر حقيقية. يجب أن تسعى الدول إلى تحقيق توازن دقيق بين توجيه الدولة وديناميكية السوق الحرة لضمان الازدهار المستدام وتجنب الانزلاق نحو نماذج قد تعيق النمو والابتكار على المدى الطويل. إنها لحظة تتطلب حكمة وتأنيًا بدلاً من الاندفاع الأعمى.
الكلمات المفتاحية المترجمة: Industrial Statism (رأسمالية الدولة الصناعية), Market Economics (اقتصاد السوق), Political Spectrum (الطيف السياسي), Free Market (السوق الحرة), State Intervention (التدخل الحكومي).
كلمات مفتاحية للبحث: اقتصاد كندا, اقتصاد أمريكا, رأسمالية الدولة, السوق الحرة, سياسة صناعية.