لطالما اتسمت سياسات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب التجارية بالجرأة والحدة، متمحورة حول شعار “أمريكا أولاً” وهدف إعادة تشكيل المشهد التجاري العالمي جذريًا. منذ بداية ولايته، فرض ترامب تعريفات جمركية على دول رئيسية مثل الصين والاتحاد الأوروبي، بهدف الضغط للحصول على اتفاقيات تجارية “أكثر عدلاً” من وجهة نظره. غير أن هذا النهج، الذي وُصف بالصدامي، يبدو الآن أنه يواجه طريقًا مسدودًا، مع تعثر العديد من هذه الصفقات في أحلك الأوقات.
تتسرب الأنباء من واشنطن عن جمود يكتنف المفاوضات التجارية، بينما يقترب الموعد النهائي لفرض تعريفات جديدة في يوليو، وهو ما يزيد من حالة عدم اليقين. ومما يزيد الطين بلة هو التصريحات المتضاربة الصادرة عن الإدارة الأمريكية، حيث يصر ترامب على قدرته على “فعل ما يحلو لنا” فيما يتعلق بالجداول الزمنية للتعريفات، وهو ما يبعث برسائل مختلطة للأسواق العالمية والمفاوضين على حد سواء.
إن هذا الغموض المتعمد، أو ربما غير المتعمد، يخلق بيئة صعبة للغاية للشركات والمستثمرين. ففي غياب مسار واضح ومواعيد نهائية يمكن الاعتماد عليها، تصبح القرارات الاستثمارية محفوفة بالمخاطر، وتتأثر سلاسل الإمداد العالمية التي تعتمد على الاستقرار والقدرة على التنبؤ. هذه الضبابية قد تؤدي إلى تجميد الاستثمارات وتباطؤ النمو الاقتصادي، وهو ما لا يخدم مصلحة أي طرف.
تحديات السياسة التجارية المتقلبة
تكمن الصعوبة الجوهرية في المفاوضات التجارية الدولية في أنها تتطلب قدرًا كبيرًا من الثقة والشفافية والمرونة. عندما تتبنى دولة ما موقفًا متشددًا وغير متوقع، يصبح التوصل إلى حلول وسط مرضية للجميع أمرًا بالغ التعقيد. نهج ترامب، القائم على التهديد بالتعريفات والتراجع عنها بشكل متكرر، قد يولد ضغطًا على الخصوم في البداية، لكنه على المدى الطويل يفتقر إلى البناء ويُفقد الثقة الضرورية لإبرام اتفاقيات مستدامة.
في رأيي، بينما قد يكون استخدام التعريفات أداة مشروعة للضغط في سياق المفاوضات، فإن الإفراط في استخدامها وربطها بتصريحات متقلبة “نفعل ما يحلو لنا” يحولها من أداة تفاوض إلى مصدر دائم للقلق وعدم الاستقرار. هذا السلوك يضعف مصداقية الإدارة الأمريكية على الساحة الدولية، ويجعل من الصعب على الشركاء التجاريين الوثوق بالالتزامات المستقبلية.
يأتي هذا التعثر في وقت حساس للغاية للاقتصاد العالمي. فمع تصاعد التوترات الجيوسياسية وتحديات النمو في مناطق متعددة، تحتاج الأسواق إلى عامل استقرار، لا عامل اضطراب. إن استمرار حالة الشد والجذب في الصفقات التجارية يضيف طبقة إضافية من المخاطر في بيئة تتطلب التعاون والتنسيق أكثر من أي وقت مضى لمواجهة التحديات الاقتصادية المشتركة.
إن سياسة “يمكننا فعل ما يحلو لنا” قد تبدو جذابة داخليًا كعنوان للقوة، لكنها تتنافى تمامًا مع مبادئ العلاقات الدولية القائمة على الاتفاقيات والقوانين المشتركة. هذا النهج يضعف التحالفات القديمة ويجعل من الصعب بناء تحالفات جديدة لمواجهة التحديات الاقتصادية، ويؤدي إلى عزلة قد لا تكون في صالح الولايات المتحدة على المدى الطويل.
التأثير على الأسواق العالمية
تمتد تداعيات هذا الجمود إلى الأسواق المالية العالمية وسلاسل الإمداد الحساسة. الشركات التي تعتمد على استيراد وتصدير السلع تجد نفسها في حيرة من أمرها، غير قادرة على التخطيط للمستقبل بسبب التهديد المستمر بفرض رسوم جمركية جديدة أو تعديل القائمة الحالية. هذا يؤثر على قرارات الإنتاج والتوزيع وحتى التوظيف، مما يترك أثرًا سلبيًا على النمو الاقتصادي العالمي ومناخ الاستثمار العام.
من وجهة نظري، فإن الإصرار على المرونة المطلقة في فرض التعريفات وتجاهل الجداول الزمنية المتفق عليها أو المعلنة، يعكس استراتيجية تفاوضية ترتكز على إبقاء الخصوم في حالة ترقب دائم. ولكن هذه الاستراتيجية قد تكون سيفًا ذا حدين؛ فبقدر ما تخلق الضغط، بقدر ما تولّد الاستياء وعدم الرغبة في التوصل إلى حلول دائمة، مما يؤدي إلى تعنت من جميع الأطراف وتأخير الوصول إلى استقرار تجاري حقيقي.
في الختام، يمثل تعثر الصفقات التجارية لإدارة ترامب في هذا التوقيت تحديًا كبيرًا للاقتصاد العالمي. فغياب الوضوح واليقين في السياسات التجارية يخلق مناخًا من المخاطر يضر بالشركات والمستهلكين على حد سواء. إن استعادة الاستقرار والثقة في العلاقات التجارية الدولية يتطلب منهجًا أكثر اتساقًا وشفافية، بعيدًا عن التهديدات والتقلبات المفاجئة، لضمان النمو الاقتصادي المستدام للجميع.