قبل عقد من الزمان، وفي خضم أزمة هجرة غير مسبوقة اجتاحت القارة الأوروبية، أطلقت المستشارة الألمانية آنذاك أنغيلا ميركل عبارتها الشهيرة “Wir schaffen das” (نستطيع فعلها). كانت هذه الكلمات بمثابة نداء للتفاؤل والقدرة على استيعاب مئات الآلاف من اللاجئين والمهاجرين الباحثين عن الأمان والمستقبل في أوروبا. لم تكن مجرد تصريح سياسي، بل كانت تجسيداً لروح التضامن والإنسانية التي يُفترض أن تميز المجتمعات الغربية. إلا أن هذه اللحظة التاريخية، التي احتفلت بها أوساط ودعمتها أخرى، أثارت في الوقت نفسه جدلاً عميقاً حول قدرة الدول على تحمل هذا العبء وتأثيره على نسيجها الاجتماعي والسياسي.
“نستطيع فعلها”: وعدٌ في مهب الريح؟
لقد جاءت دعوة ميركل ضمن سياق قيم ليبرالية عميقة الجذور، تؤمن بالحدود المفتوحة، وحقوق الإنسان، وضرورة مساعدة المحتاجين. كان من المفترض أن تكون الهجرة الجماعية فرصة لإظهار قوة هذه المبادئ وقدرة المجتمعات المتفتحة على التكامل والتنوع. لكن الواقع على الأرض كشف عن تعقيدات لم تكن بالحسبان. فمع تدفق أعداد هائلة من المهاجرين، واجهت البنية التحتية والخدمات العامة تحديات ضخمة، من الإسكان والرعاية الصحية إلى التعليم وسوق العمل. هذه الضغوط بدأت تضع تحت المجهر مدى استعداد المجتمعات الأوروبية لترجمة مبادئها الليبرالية إلى ممارسات مستدامة.
امتحان الليبرالية الأوروبية
بعيداً عن الأبعاد الإنسانية، أفرزت أزمة الهجرة تداعيات سياسية واجتماعية عميقة، يصفها البعض بأنها “سقوط الليبرالية” أو على الأقل تراجعها. فقد شهدت أوروبا صعوداً ملحوظاً للأحزاب اليمينية الشعبوية، التي استغلت المخاوف المجتمعية من التغيرات الديموغرافية والثقافية والاقتصادية. بدأت الأصوات المطالبة بفرض قيود أكثر صرامة على الهجرة تكتسب زخماً، وأصبح النقاش حول الهوية الوطنية والسيادة أكثر حدة. لم يعد الأمر مقتصراً على كيفية استيعاب اللاجئين، بل امتد ليشمل طبيعة المجتمعات الأوروبية المستقبلية وحدود التسامح والتنوع.
تداعيات عميقة على المشهد السياسي
من وجهة نظري، فإن تعبير “سقوط الليبرالية” قد يكون مبالغاً فيه، لكنه يعكس بلا شك تحولاً جذرياً في المزاج العام والخطاب السياسي. لم تكن القضية فشلاً في الليبرالية بحد ذاتها، بل كانت اختباراً لقدرتها على التعامل مع أزمات بهذا الحجم دون التضحية بالاستقرار الاجتماعي أو تبني ردود فعل متطرفة. لقد أظهرت التجربة أن المبادئ وحدها لا تكفي، بل يجب أن تقترن باستراتيجيات عملية وواقعية لإدارة تدفقات الهجرة وضمان التكامل الفعال. هذا يتطلب توازناً دقيقاً بين الانفتاح والتضامن من جهة، والحفاظ على الهوية الوطنية والاستقرار من جهة أخرى.
نحو مستقبل الهجرة: دروس مستفادة
بعد عقد من الزمن، لا يزال النقاش حول الهجرة وتأثيراتها مستمراً، وقد تغير المشهد السياسي الأوروبي بشكل لا رجعة فيه. الأزمة التي بدأت بتصريح جريء لم تكن مجرد حدث عابر، بل نقطة تحول كشفت عن نقاط قوة وضعف في البنى الديمقراطية والمجتمعية. الدرس المستفاد هو أن إدارة الهجرة تتطلب مقاربة شاملة تتجاوز الاستجابات العاجلة، وتشمل التخطيط طويل الأمد، والتكامل الاقتصادي والاجتماعي، والحوار المستمر حول القيم المشتركة. يبقى السؤال مفتوحاً حول كيفية المضي قدماً: هل ستستعيد الليبرالية زخمها بتكييف مبادئها، أم أن التحديات ستدفع نحو نماذج سياسية جديدة؟ المستقبل وحده سيجيب.
الكلمات المفتاحية المترجمة:
columnists: كتّاب الأعمدة
opinion: رأي
الكلمات المفتاحية للمقال: الهجرة الجماعية, الليبرالية, أوروبا, أنغيلا ميركل, أزمة اللاجئين