في تحول لافت يعكس ديناميكيات الاقتصاد الحديث والحاجات الإنسانية المتغيرة، برزت ظاهرة جديدة في الولايات المتحدة الأمريكية تتمثل في بيع حليب الأم عبر الإنترنت. مع تصاعد الوعي بأهمية الرضاعة الطبيعية وارتفاع معدلاتها، وجدت بعض الأمهات أنفسهن أمام فرصة فريدة لتحويل هذا السائل الثمين إلى مصدر دخل قد يصل إلى 1000 دولار شهرياً. هذه الممارسة، وإن بدت غريبة للوهلة الأولى، تسلط الضوء على تداخل الحاجة الاقتصادية مع الحاجة البيولوجية.
دوافع الاقتصاد والصحة
يغذي هذا السوق المتنامي عاملان رئيسيان: الطلب المتزايد من الأمهات اللاتي لا يستطعن إنتاج كمية كافية من الحليب لأطفالهن، ورغبة بعض الأمهات المرضعات في تحقيق دخل إضافي. ففي عصر تسود فيه منصات التواصل الاجتماعي، أصبحت مجموعات فيسبوك أرضاً خصبة لتسهيل هذه المعاملات. تتبادل الأمهات فيها العروض والطلبات، مدفوعات بالاعتقاد بأن حليب الأم هو الخيار الأمثل لنمو الرضع، حتى لو لم يكن من أمهاتهن البيولوجيات. إنها معضلة بين الحاجة الشديدة للرضاعة الطبيعية ونقص الإمدادات المتاحة بشكل تقليدي.
مخاطر سوق غير منظم
على الرغم من الجاذبية الاقتصادية والصحية الظاهرية، يكمن الخطر الأكبر في هذا السوق غير المنظم. فعمليات البيع والشراء تتم في غياب أي إشراف طبي أو رقابة صحية، مما يترك المشترين دون أي ضمان لجودة الحليب أو سلامته. يمكن أن يحتوي الحليب المباع على بقايا أدوية، أو فيروسات، أو حتى ملوثات تنتقل عبر اللبن دون علم البائع أو المشتري. هذا الافتقار إلى التنظيم يثير مخاوف جدية بشأن صحة الرضع الذين يعتمدون على هذا المصدر، ويضع عبئاً أخلاقياً وصحياً على عاتق كل من يشارك فيه.
أرى أن هذه الظاهرة، وإن كانت تعكس جانباً من المرونة البشرية في تلبية الاحتياجات، إلا أنها تفتح باباً واسعاً لمخاطر صحية لا يمكن الاستهانة بها. فبينما يمكن تفهم حاجة بعض الأمهات للدخل الإضاف من جهة، ورغبة أخريات في توفير أفضل تغذية ممكنة لأطفالهن من جهة أخرى، لا ينبغي أن يكون ذلك على حساب صحة الأطفال الأبرياء. يجب أن يكون هناك توازن بين تقديم المساعدة والدعم للأمهات المرضعات وبين وضع آليات رقابية صارمة تضمن سلامة الحليب البشري المتداول، ربما من خلال بنوك حليب رسمية أو منصات خاضعة للإشراف الطبي.
في الختام، يُعد سوق حليب الأم غير المنظم في أمريكا قضية معقدة تتشابك فيها الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والصحية. إنه يمثل تحدياً للأنظمة الصحية والتشريعية في كيفية مواجهة هذه الحاجة المتزايدة بطريقة آمنة وفعالة. يتطلب الأمر نقاشاً مجتمعياً واسعاً وجهوداً منسقة من قبل السلطات الصحية والمؤسسات المعنية لضمان أن تبقى صحة أطفالنا في المقام الأول، مع إيجاد حلول مستدامة تلبي احتياجات الأمهات دون تعريض الأرواح البريئة للخطر. فالغاية النبيلة لا تبرر الوسيلة إذا كانت محفوفة بالمخاطر الجسيمة.
قسم: تايمز ميديا أمريكا, قسم: الولايات المتحدة, قسم: ذا صنداي تايمز العالمية, قسم: أخبار الولايات المتحدة
حليب الأم, بيع الحليب البشري, تجارة الحليب, صحة الرضع, أمهات مربحات
