في عالم يتسارع فيه الابتكار التكنولوجي بوتيرة غير مسبوقة، نشهد تطورات مذهلة في شتى المجالات، بما في ذلك الطب. مرض السكري، الذي يؤثر على ملايين البشر حول العالم، أصبح الآن يمتلك حلولاً تقنية “مغيرة لقواعد اللعبة” تعد بتحسين نوعية الحياة بشكل جذري. لكن المفارقة المؤلمة تكمن في أن هذه الابتكارات الباهرة غالباً ما تبقى بعيدة المنال عن كثيرين، بسبب عائق واحد لا يرحم: التكلفة الباهظة.
تخيل أن هناك أدوات يمكنها أن تجعل إدارة مرضك المزمن أسهل وأكثر فعالية، وتقلل من احتمالية حدوث مضاعفات خطيرة، لكنها تتطلب منك إنفاق مئات الدولارات شهرياً، في وقت يرتفع فيه غلاء المعيشة إلى مستويات غير مسبوقة. هذه هي الحقيقة القاسية التي يواجهها مرضى السكري الذين يجدون أنفسهم في معركة مستمرة ليس فقط ضد المرض، بل ضد الضغوط المالية أيضاً.
نتحدث هنا عن تقنيات مثل أجهزة مراقبة الجلوكوز المستمرة (CGM) ومضخات الأنسولين. هذه الأجهزة ليست مجرد رفاهية؛ إنها أدوات حيوية توفر قراءات دقيقة للسكر على مدار الساعة، وتوصل الأنسولين بجرعات دقيقة، مما يقلل الحاجة للوخز المتكرر ويمنح المرضى تحكماً أفضل بكثير في حالتهم. هذا التحكم يترجم مباشرة إلى حياة أكثر صحة، وتقلبات أقل في مستويات السكر، وتقليل خطر الإصابة بمضاعفات مدمرة مثل تلف الأعصاب والكلى والبصر.
التكلفة الباهظة: عائق أمام الأمل
لماذا إذن تبقى هذه التقنيات باهظة الثمن؟ يعود الأمر إلى عدة عوامل، منها تكاليف البحث والتطوير الهائلة، وحاجة هذه الأجهزة إلى تقنيات تصنيع دقيقة للغاية، بالإضافة إلى محدودية المنافسة في السوق. النتيجة هي أن شركات الأدوية والتقنيات الطبية تستطيع تحديد أسعار مرتفعة، مما يحول دون وصولها إلى الطبقات الأقل حظاً أو حتى متوسطة الدخل.
من وجهة نظري، فإن هذا الوضع غير مقبول على الإطلاق. إنه يضع المرضى في موقف لا يحسدون عليه: الاختيار بين صحتهم الفورية والأساسية، وبين تلبية احتياجاتهم المعيشية الأخرى من غذاء ومسكن وتعليم. يؤدي هذا الضغط المالي الهائل إلى مستويات عالية من التوتر والقلق لدى المرضى وذويهم، وقد يدفع البعض للتخلي عن استخدام هذه التقنيات المنقذة للحياة، مما يعرضهم لمخاطر صحية جسيمة ومضاعفات قد تكلف نظام الرعاية الصحية أضعاف ما كانت ستكلفه الإعانات الوقائية.
وسط هذه التحديات، تتعالى الأصوات المطالبة بزيادة الدعم الحكومي والإعانات لهذه التقنيات. هذه المطالبات ليست مجرد نداءات عاطفية؛ إنها دعوات مبنية على أسس اقتصادية واجتماعية متينة. فدعم وصول المرضى إلى هذه التقنيات لا يمثل نفقات إضافية فحسب، بل هو استثمار طويل الأمد في الصحة العامة. عندما يتمكن المرضى من إدارة حالاتهم بفعالية، تقل الحاجة إلى زيارات الطوارئ، والاستشفاء، وعلاج المضاعفات المكلفة التي يمكن تجنبها.
نداءات الإعانة: استثمار في الصحة العامة
إن النظرة قصيرة المدى التي تركز على التوفير الفوري في الميزانية الحكومية تتجاهل التكاليف الخفية واللاحقة لعدم دعم هذه التقنيات. فكل حالة دخول للمستشفى بسبب مضاعفات السكري غير المسيطر عليها، وكل عملية جراحية ضرورية لتلف الأعضاء، تمثل عبئاً مالياً وإنسانياً أكبر بكثير مما لو تم توفير الدعم اللازم منذ البداية. لذلك، فإن زيادة الدعم الحكومي يجب أن تُعامل كاستراتيجية وقائية لتعزيز جودة الحياة وتقليل الضغط المستقبلي على الأنظمة الصحية.
إن بعض الدول حول العالم قد بدأت في تبني نماذج لدعم هذه التقنيات، من خلال برامج إعانة شاملة أو مفاوضات مباشرة مع الشركات المصنعة لخفض الأسعار على المستوى الوطني. يمكن أن تكون هذه النماذج بمثابة خريطة طريق للدول الأخرى التي لا تزال تكافح في هذا الصدد. الأمر يتطلب إرادة سياسية قوية ورؤية بعيدة المدى تضع صحة المواطنين ورفاههم في صدارة الأولويات.
نحو مستقبل أكثر عدالة صحياً
في الختام، يجب ألا يكون الوصول إلى التقنيات الطبية المنقذة للحياة رفاهية تقتصر على الأثرياء أو من يمتلكون تأميناً صحياً شاملاً. إنها قضية عدالة اجتماعية وحق أساسي من حقوق الإنسان. على صانعي السياسات أن يستمعوا إلى صرخات مرضى السكري، وأن يدركوا أن الاستثمار في صحتهم اليوم هو استثمار في مجتمع أقوى وأكثر إنتاجية غداً. آن الأوان لتجاوز الحواجز المالية وضمان أن التقنيات “المغيرة لقواعد اللعبة” تغير فعلاً حياة الجميع نحو الأفضل، وليس فقط حفنة من المحظوظين.
كلمات مفتاحية: السكري، تكلفة العلاج، تقنيات طبية، دعم حكومي، الصحة العامة.