في عالم تسيطر عليه الشاشات وتتسارع فيه الأخبار، تتجدد النقاشات حول مدى قدرة الفضاء الرقمي على عكس نبض الرأي العام الحقيقي. هذا الأسبوع، وفي خضم حدث “Turning Point USA” الكبير في تامبا بفلوريدا، حيث ألقى توكر كارلسون كلمته، أثار بين شابيرو نقطة بالغة الأهمية: هل النظام البيئي للإعلام عبر الإنترنت مقياس غير دقيق لوجهات النظر الأمريكية؟ سؤال يطرح نفسه بقوة في عصر تزداد فيه الفجوة بين الخطاب الرقمي والواقع المعاش.
ما يذهب إليه شابيرو هو أن ما نراه ونسمعه عبر المنصات الرقمية، من وسائل التواصل الاجتماعي إلى المواقع الإخبارية الموجهة، ليس بالضرورة انعكاساً صادقاً للمشهد الأمريكي برمته. يرى أن هذه البيئة تخلق تصوراً مشوهاً عن حجم وتأثير آراء معينة، غالباً ما تكون الأكثر صخباً أو استقطاباً، بينما تظل الغالبية الصامتة أو المعتدلة خارج هذه الدائرة الضيقة.
فقاعة الإنترنت: وهم الإجماع الرقمي
يكمن جزء كبير من المشكلة في “فقاعات التصفية” و”غرف الصدى” التي تخلقها خوارزميات الإنترنت. هذه الخوارزميات مصممة لتعزيز المحتوى الذي يتوافق مع اهتمامات المستخدمين وتوجهاتهم السابقة، مما يؤدي إلى حصر الأفراد داخل دوائر معلوماتية تضخم وجهات نظر معينة وتستبعد أخرى. النتيجة هي وهم الإجماع داخل هذه الفقاعات، مما يجعل المؤثرين والمتحمسين يظهرون وكأنهم يمثلون تياراً أوسع بكثير مما هم عليه في الواقع.
الفرق بين النشاط الرقمي والرأي العام الحقيقي يزداد وضوحاً عند مقارنة استطلاعات الرأي الشاملة بالمحادثات الدائرة على تويتر أو فيسبوك. فليست كل الآراء تُعبّر عنها على الإنترنت، وليس كل من يستخدم الإنترنت يعبر عن رأيه علناً. هناك شريحة كبيرة من المجتمع قد لا تكون نشطة على هذه المنصات، أو قد تختار عدم الانخراط في النقاشات المستقطبة، مما يجعل المشهد الرقمي ناقصاً ومضللاً.
تأثير الشخصيات البارزة وجمهورها
تُعد مشاركة شخصيات مثل توكر كارلسون في فعاليات جماهيرية كبرى خير مثال على هذه الظاهرة. فجمهوره، الذي يتابعه بشغف على الإنترنت وفي التجمعات، هو في الغالب جمهور متجانس سياسياً، متحمس، وفاعل جداً على المنصات الرقمية. هذا التفاعل المكثف يمكن أن يوحي بأن آراء هذا التيار تمثل التيار الغالب في المجتمع، بينما هي في الحقيقة تعكس شريحة معينة، وإن كانت مؤثرة.
إن ما يصفه البعض بـ”الأقلية الصاخبة” على الإنترنت قادر على خلق ضجيج هائل وتوجيه الانتباه نحو قضايا معينة بطريقة لا تتناسب مع تمثيلها الحقيقي في المجتمع. هذا لا يعني أن آراءهم غير مهمة، بل يعني أن حجم تمثيلها وتأثيرها يبدو أكبر بكثير مما هو عليه في الواقع، مما يؤثر على إدراكنا الجماعي للتوجهات السياسية والاجتماعية.
أتفق تماماً مع طرح بن شابيرو. إن الاعتماد الكلي على المنصات الرقمية كمقياس للرأي العام هو خطأ فادح ينطوي على مخاطر جمة. فعندما نخلط بين صخب الإنترنت وصوت الأمة، فإننا نكون عرضة لتشوهات تضر بالعملية الديمقراطية. يصبح من السهل على صناع القرار وغيرهم الوقوع في فخ الافتراض بأن “الضجيج” الرقمي هو ذاته “الهمس” الجماهيري، مما يؤدي إلى قرارات وسياسات قد لا تعكس الاحتياجات الحقيقية للمواطنين.
هذا التحدي لا يقتصر على المشهد السياسي الأمريكي فحسب، بل هو ظاهرة عالمية. في كل مكان، نرى كيف يمكن لحملات التضليل، أو حتى مجرد التفاعل العضوي داخل الغرف الصدية، أن تخلق تصورات خاطئة عن مدى شعبية فكرة معينة أو رفضها. هذا يؤثر على كل شيء بدءاً من الخطاب السياسي، مروراً بالحركات الاجتماعية، وصولاً إلى كيفية صياغة القوانين في بلدان مختلفة حول العالم.
لمواجهة هذا التحدي، يتوجب علينا تنمية وعي نقدي تجاه المحتوى الرقمي. يجب على الأفراد والمؤسسات تشجيع محو الأمية الإعلامية، وتطوير القدرة على التمييز بين المعلومات الموثوقة والضجيج، والبحث عن مصادر متعددة للمعلومات لا تقتصر على دوائرهم الرقمية المعتادة. هذا يتطلب جهداً واعياً للخروج من الفقاعات الشخصية والاطلاع على وجهات نظر مختلفة.
في الختام، يظل كلام بين شابيرو تذكيراً قوياً بأنه يجب علينا ألا نخلط بين الصدى الرقمي والواقع الاجتماعي. إن فهم الفجوة بينهما أمر حاسم للحفاظ على نقاش عام صحي وعملية ديمقراطية سليمة. الإنترنت أداة قوية، لكنها مرآة قد تكون مشوهة، والمسؤولية تقع علينا لتفسير انعكاساتها بحذر وتبصر.
الكلمات المفتاحية: إعلام رقمي، رأي عام، فقاعات فلتر، تحليل سياسي، بين شابيرو
columnists: كتاب الأعمدة